بقلم : احمد غراب رئيس تحرير الحقيقيه نيوز
ومما يزيد المشهد بكاء والطين بلة هو السير بخشبة الميت فى أبعد الطرق عن المقابر؛ لمجرد أن فى هذا الطريق يسكن حبيبه” فلان”..
—————
لا يختلف اثنان على أن إكرام الميت هو التعجيل بدفنه؛ لكن يبدو أن كثيرا من الناس فى المناطق الريفية والشعبية لهم رأى آخر، حيث يختلفون بعد انتهاء صلاة الجنازة فى قراءة سورة يس جهرا على المتوفى.. بعضهم يقول: إن هذا لم يرد عن الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ولا عن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- والبعض الآخر يقول: إنه ورد عن بعض الصالحين، ولا بأس به. ويستمر الجدال، وخلاله تبدأ القراءة.. البعض يقرأ والبعض يشوش ويغلوش.
وأثناء الدفن يشتد الجدال وترتفع الأصوات بمجرد ظهور رجل يرفع يديه بالدعاء جهرا قائلا: يا فلان ابن فلان” اسم المتوفى” إذا جاءك الملكان وسألاك.. من ربك؟ ومن رسولك؟ وما دينك؟ فقل: ربى الله، ورسولى محمد، والإسلام دينى. البعض يؤمن بحجة أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين، وأن هذا الدعاء ورد عن الصالحين، ولا بأس به، والبعض الآخر معترض ويشوش بحجة أن هذا الدعاء لا أصل له!!
ورغم أن المقام مقام موعظة وعبرة ودعاء واستغفار للمتوفى، لا مقام جدال واختلاف فى كل صغيرة وكبيرة لقول الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام: كفى بالموت واعظا” فإن الجدال قد يتطور فى بعض الأحيان إلى شجار، خاصة لو أن مثيرى الجدال والاختلاف من غير أقارب المتوفى، ومما يزيد المشهد بكاء والطين بلة هو السير بخشبة الميت فى أبعد الطرق عن المقابر؛ لمجرد أن فى هذا الطريق يسكن حبيبه فلان وصديقه تركان وأحيانا ينبهوننا للتوقف لأن خشبة المتوفى توقفت أمام بيت قريبه “علان”!
الاغتيال المعنوى!!
ابتلانا الله بأناس يفتون فى كل شىء رغم أنهم لا يعرفون أحكام الوضوء، والأقبح والأنكى من ذلك أن أمثالهم يتطاولون على الفقهاء والعلماء؛ وهذه الظاهرة تتكرر فى كل عصر وحين، فعندما أجاز الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية الأسبق -رحمه الله- الأخذ بالحسابات الفلكية فى بدايات الشهور القمرية منذ أكثر من مائة عام هاجوا وماجوا. وفسر الإمام قول الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته بأنها رؤية ادراكية فكرية علمية كالتى وردت فى قول الله عز وجل: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل” وقوله سبحانه وتعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
وفى وقت قريب غرقت العبارة السلام 98 ولم يتم العثور على بعض الجثث؛ ولم يستطع ذووهم استخراج شهادة وفاتهم وعمل إعلام وراثة، ونظرا لكثرة الحالات تم إعادة النظر قانونا وفقها فى اعتبار المتغيب ميتا بلا جثة؛ حيث وجد الإمام الأكبر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوى -رحمه الله- ان أيسر المذاهب فى هذه المشكلة هو المذهب الجعفرى الذى يعتبر المتغيب ميتا فى حالة التيقن من وجوده بمسرح حادث معروف كغرقى حادث العبارة أما أيسر الآراء بالمذاهب الأخرى فكان المذهب المالكى الذى لا يعتبر المتغيب فى كل الحالات ميتا إلا بعد مرور سنة كاملة؛ فأشار الإمام بالأخذ بالرأى الأول؛ تيسيرا على ذوى المتغيبين، ومنعا للحرج على أسرهم، واستخرجت شهادات الوفاة؛ لكن الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب قالوا: إن الإمام أخذ برأى الشيعة.
أما أبشع مظاهر الاغتيال المعنوى فهو ما تعرض له الإمام أحمد بن حنبل لمجرد أنه راعى ضميره ودينه بالامتناع عن القول بخلق القرآن، وقال: إن القرآن الكريم كلام الله ولا أزيد؛ حيث أمر الخليفة العباسى المأمون بسجنه وضربه حتى شلت يده. وكان المأمون يتبنى أفكار فرقة المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن الكريم مخلوق لأن الله هو الواحد الأزلى الأبدى، ولا أزلى غيره.
الحوكمة وسنينها!!
بعد أزمة بنك التجارة والاعتماد فى تسعينيات القرن الماضى فكر رجال الإدارة والاقتصاد فى وضع نوع دقيق من الرقابة الإدارية الشديدة؛ لتحقيق التوازن بين مصالح جميع أطراف العمل وسموه بالحوكمة.
ارتبك علماء اللغة فى تسمية مصطلح الحوكمة فى بداية الأمر؛ لأنه لا يوجد مصدر قياسى على وزن فوعلة فسموه الحكمانية وفى مرحلة تالية الحاكمية إلا أنهم فى النهاية وجدوا أن مصطلح الحوكمة هو الأدق، ولأنه لا مشاحة ولا جدال فى الاصطلاح؛ فالذى يهمنا هو مضمونه الذى يعتبر ابن بيئتنا.
استعمل الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- صحابيا يدعى ابن اللتبية على جمع صدقات قومه من بنى الأزد، فلما جاء للرسول حاسبه؛ فقال ابن اللتبية: هذا لكم، وهذا أهدى لى، قال الحبيب المصطفى غاضبا: هلا جلست فى بيت أبيك وأمك ثم قام النبى فخطب فى الناس: إنى أستعمل الرجل منكم على العمل فيما ولانى الله، فيأتينى فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لى، أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا.
ولما عاد الصحابى الجليل معاذ بن جبل -رضى الله عنه- من اليمن دخل على الخليفة أبى بكر الصديق -رضى الله عنه- فقال أبوبكر: ارفع حسابك قال معاذ: أحسابان.. حساب من الله، وحساب منكم؟! والله لا ألى لكم عملا أبدا.
أليست هذه المواقف فى تراثنا نوعا من الحوكمة، وترجمة عملية لأحكام وتعاليم ديننا الحنيف؟! فالحبيب المصطفى يقول: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. وما ورد عن الصحابة أن رسول الله لعن الراشى والمرتشى والرائش بينهما. ووصولا للمعنى الأشمل للحوكمة نجد أحاديث مثل من غش فليس منا. وكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته..
وفى دراسة أثر الحوكمة فى الرقابة على شركات التأمين التكافلى للدكتور نصر جعفر سلامة عرض الباحث للجذور الفقهية للحوكمة، وبين مدى اهتمام الشريعة الإسلامية بعملية التأمين التكافلى باعتبارها من أهم مقومات الاستقرار الاجتماعى والنمو الاقتصادى فى أى مجتمع.
حكاية قصر العينى!!
فى صحن الجامع الأزهر جلس الشيخ يحاور تلاميذه ومريديه حول حديث الحبيب المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام- إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له . قال الشيخ: إن الصدقة يأخذها الله سبحانه وتعالى قبل أن تقع فى أيادى الفقراء والمساكين؛ فعلق أحد الحاضرين: كيف ذلك يا مولانا؟! قال: ألم تسمع قول الله عز وجل: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم؟ فرد السائل: ويتوب الله على العبد ويرحمه مهما كانت ذنوبه؟! قال: هناك ما هو أفضل من ذلك، وهو أن يبدلها الله حسنات، بل هناك ما هو أرقى وأسمى، وهو أن يصلى عليك سيدنا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- وتتنزل عليك السكينة والبركات؛ فقاطعه الرجل مندهشا: كيف هذا؟! قال: ألم يقل ربنا سبحانه وتعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم..
ولأن الحوار تطرق لقضايا كثيرة لا يتسع المقام لذكرها أعرفكم بالمُحاور وهو القاضى بدر الدين محمد العينى باشا صاحب صدقة جارية استفاد منها -ولايزال- العالم كله؛ فقصر العينى بقلب القاهرة ودوره فى علاج المرضى وتخريج أعظم الأطباء غنى عن التعريف، أما الشيخ فهو الفقيه ابن حجر العسقلانى صاحب كتاب فتح البارى فى شرح صحيح البخارى.
فى أوقات الشدة والابتلاءات كان الحبيب المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام- يخطب فى الناس، ويحثهم على جمع الصدقات؛ فجاءه ذات يوم عبد الرحمن بن عوف -رضى الله عنه- بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول الله.. إن مالى كله ثمانية آلاف درهم، جئتك بنصفها، فاجعلها فى سبيل الله، وأمسكت نصفها لعيالى؛ فقال الحبيب المصطفى: بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت ؛ فاصبح عبدالرحمن بن عوف بعدها أغنى أغنياء المدينة المنورة؛ ورغم ذلك ظل متواضعا بسيطا فى لبسه ومعاملاته خاصة مع الفقراء والمساكين؛ ليقربهم منه، فأمثاله وأمثال القاضى بدر الدين العينى نحسبهم أغنياء من التعفف عن متاع الدنيا وغرورها.
من أنتم؟!
محاولات التقرب من علية القوم والتزلف إلى مشاهير الناس لا تنتهى فى كل مكان وزمان، بالأفراح والأتراح، خاصة من يعينون فى منصب مرموق أو يحصلون على شهادة تقدير دولية، لكن بعد الانتشار الهائل للسوشيال ميديا طفح الكيل وزاد الخرق على الراتق، ولم يعد فى قوس الصبر منزع، وأصبح الكثيرون يدعون قرابتهم لفلان أو علان من المشاهير وذوى المناصب العليا لمجرد التشابه فى اسم سابع أو عاشر جد.
ويتطوع أمثال هؤلاء بمناسبة ودون مناسبة بسرد الحكايات الأساطير والملاحم فى تاريخهم العائلى الضارب فى جذور الزمن حتى بدايته، كما فعل أشعب فى عصر الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور؛ حيث اعتاد أشعب حضور ولائم واحتفالات الخليفة دون دعوة، فسأله الخليفة: من الذى يدعوك إلى ولائمنا واحتفالاتنا؟ قال أشعب: يا أمير المؤمنين.. بينى وبينكم صلة رحم مقطوعة، أسعى إلى وصلها حتى لا أكون قاطع رحم، قال الخليفة: وما صلة الرحم هذه؟ أجاب أشعب: أنا وأنت وجميع من بالوليمة من أبناء آدم وحواء، وقطعت صلة الرحم بيننا، فقال له الخليفة مبتسما: نحن أولى بصلة الرحم منك، وأخذ أشعب ينظر بانبهار للخاتم الذى بيد الخليفة فسأله: هل رأيت أجمل من هذا الخاتم يا أشعب؟ قال: ليس هناك أجمل منه إلا اليد التى وضع فيها، فاهداه الخليفة الخاتم، وقال: أنت مدعو منى مسبقا إلى كل ولائمنا واحتفالاتنا ومسامراتنا!!
ليت الكثيرين من طفيليى هذا الزمان يتمتعون بثقافة وخفة ظل أشعب، فنغفر لهم الهبد والرزع فى عقولنا ليل نهار، لكن تبدو فيهم بوضوح لغة التفاخر والعنجهية والاستعلاء على خلق الله الذين لا يتمتعون بالانتساب لأسر عريقة ضاربة فى جذور التاريخ مثلهم متناسين ومتجاهلين قول الشاعر:
وما المرء إلا هالك وابن هالك..
وذو نسب فى الهالكين تليد
لا يعقل -ونحن فى القرن الحادى والعشرين- أن يظل بيننا من يدعو بدعوى الجاهلية متسائلا ومستنكرا: انت مش عارف أنا ابن من فى مصر؟ على طريقة طفل المرور وأصحابه!