كتب :علاء قنديل
بعد 70 عاما من ثورة يوليو لا تزال هناك أسرار لم تذكر بعد..عندما استقرت أوضاع الثورة أعيد تشكيل لجنة قيادة الضباط الأحرار، وأصبحت تعرف باسم مجلس قيادة الثورة وكان يتكون من 11 عضوا برئاسة اللواء أركان حرب محمد نجيب، ثم حدثت خلافات بين عبد الناصر ومحمد نجيب مما أسفر في النهاية عن قيام مجلس قيادة الثورة برئاسة عبد الناصر بمهام رئيس الجمهورية، ثم أصبح في يونيو 1956 رئيساً منتخباً لمصر في استفتاء شعبي.
في 24 سبتمبر 1973، كتبت زوجة الزعيم الراحل، السيدة تحية عبد الناصر مذكراتها على ورق مسطر في نحو 175 صفحة وأودعها أبناؤها وبناتها خزانة أحد البنوك لاختيار الوقت المناسب لنشرها.
المذكرات هي النسخة الثالثة لما كتبته تحية فقد سبق أن كتبتها أول مرة عام 1959 أيام الوحدة بين مصر وسوريا وأمضت في كتابتها ثلاث سنوات بعلم الرئيس، ثم قررت حرقها، قائلة: «إنني سعيدة كما أنني لا أريد أن أكتب شيئا»، وبعد رحيله عاشت مع ذكرياته وكررت التجربة وسط دموعها لكنها وضعت القلم وتخلصت مما كتبت، قائلة: «صحتي لم تتحمل»، وفي المرة الثالثة طلب منها أصغر أبنائها عبد الحكيم أن تكتب وألح عليها لأنه متشوق لمعرفة كل شيء عن والده العظيم فكتبت ولم تتخلص مما كتبت .
وبمناسبة الذكرى الـ66 على ثورة 23 يوليو، «بوابة أخبار اليوم» تلقي الضوء على بعضًا مما كتبته السيدة تحية عبد الناصر في مذكراتها، التي تكشف الجوانب الإنسانية في شخصية الزعيم الراحل، كما تكشف كواليس فترة ثورة يوليو .
تقول السيدة تحية عبد الناصر في مذكراتها عن الزعيم الراحل: «لم يكن يحب الاختلاط خاصة بين الضباط وكنت أعرف ضيوفه من أصواتهم وكان يستعمل بطارية صغيرة عند نزوله السلم ولو كان مضاءً، وكان منظماً في كل شيء، ولا يحب أن يساعده أحد في لبسه ولا في تعليق ثيابه وكان يخرج معي مرة كل أسبوع وغالبا إلى السينما».
وبالرغم مما فعله شقيقي «عبد الحميد» معه إلا أنه بعد إصابة عبد الحميد بالدرن ظل بجانبه لا يخشي العدوى، وعندما توفي «عبد الحميد» عاد حزينا لم يأكل ولم يسمع أم كلثوم ورفض أن يخبرها بما جري خوفا عليها بعد أن أنجبت خالد بأيام قليلة.
وفي يوم 16 مايو 1948 اليوم التالي لإعلان الحرب في فلسطين سافر إلى هناك كان ينزل السلالم مسرعا ووقفت وأنا أبكي وهناك حزمة من الخطابات التي أرسلتها إليه وهو هناك لتطمئنه علي عائلته الصغيرة هدي ومني، لكن فوجئت عندما عاد في إجازة بإصابة في صدره ناحية القلب وبعد أن عاد للميدان انقطعت أخباره لتعرف بالمصادفة أنه أسير في الفالوجة لكنه رغم ذلك كان يطلب منها أن تفسح هدي دائما وتأخذها حديقة الحيوان وجنينة الأسماك وفي أيام انتظار عودته راحت تشغل له بلوفر دون أكمام لونه رمادي وهو اللون المفضل لديه .
وبما فاض من مرتب الحرب المضاعف اشترى سيارته «الأوستن» السوداء ولكنه في الوقت نفسه بدأ في تخزين الأسلحة بالبيت وكتب بنفسه على الماكينة الكاتبة منشورات الضباط الأحرار، كما كان يقرأ كتابا ممنوعا عن اشتراكية أبو ذر الغفاري، وكان كل شيء في بيته ضد السلطة.
وكان يحذرها من أن تفتح للغرباء في غيابه خوفا من تفتيش البيت، قائلا: لا تخافي اقفلي الباب في وجوههم وذات يوم قالت له إنها تعرف أنه يخالف الحكومة لكن ما هو الهدف فكان رده الأحسن أن لا تعرفي شيئا وتظلي كما أنت فكان أن قالت خليني زي ما أنا أحسن لا أفهم شيئا، وهي حامل في خالد تمنى بنتا ثالثة شوفي يا تحية قد إيه هدى ومنى وهما رابطين الفيونكات في شعرهما شكلهم جميل إن شاء الله لما يبقوا ثلاث بنات بهذا الجمال والفيونكات سيكونون أجمل .
تقول السيدة تحية عبد الناصر: إن عدد الضباط المترددين على البيت أصبح يتزايد في الفترة ما قبل ثورة 23 يوليو، وكان منهم أنور السادات الذي حضر ولم يجد جمال ووصفته بأنه أسمر شديد السمرة، وقال جمال إنه متزوج حديثا وزوجته بيضاء جدا، وعندما قالت له ذات يوم وقد عاد إلي البيت فجراً إنها تخاف عليه وعلي أولادها من التشرد رد قائلا يا للأنانية كل ما يهمك في البلد هو زوجك وأولادك يعني لا تفكري إلا في نفسك.
وقبل الثورة بأيام قليلة قال لي إنه مشغول جدّا في امتحان كلية أركان حرب، وإنه يشتغل في تصحيح أوراق الامتحان، وقال لي: اخرجي واتسلي واذهبي إلى السينما مع أخواتك، واصحبي معك هدى ومنى وخالد ــ وكان عمره سنتين ونصف ــ ليروا ميكي ماوس، وتذهبي إلى سينما الفالوجة، وهى قريبة من منزلنا وممكن نذهب لها مشيا، أو أي سينما تعجبك في مصر الجديدة وأغلبها صيفي الآن والجو حار، فقلت: نعم سأذهب.. وبقيت كما أنا سعيدة هانئة كل وقتي مشغول، وذهبت للسينما واصطحبت الأولاد كما قال لي .
وفى الليلتين قبل الثورة لم ينم وظل بملابسه العادية جالسا في حجرة السفرة على الترابيزة يشتغل، وفى الصباح في الساعة السابعة يدخل الحجرة ليستبدل بملابسه الملابس الرسمية ونتناول الإفطار سويّا، وقبل خروجه يقول لي: جهزي غداء زيادة لأننا سنجلس كالأمس في تصحيح أوراق الامتحان، ويحيينى ويخرج .
اليوم الثاني والعشرون من يوليو سنة 1952 الساعة السابعة صباحا، دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية، القميص والبنطلون ولم ينم طوال الليل، جلس في حجرة السفرة يشتغل كالليلة السابقة، حياني واستعد للخروج واستبدل بملابسه العادية الملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويّا .
خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط وظل معهم في الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف، تحدث معي جمال وقال: لم لا تخرجين وتأخذين معك هدى ومنى وخالد وتذهبون للسينما والجو حار وتتسلون ويذهب معك إخوتي.. فقلت: نعم سأفكر في الذهاب، وحيّاني وخرج.
بعد خروجه وقرب المغرب فضلت أن أخرج أمشى بالقرب من الحديقة التي أمام قصر القبة، وكانت غير مزدحمة مثل الآن وأغلب البيوت فيلات والمشي لطيف بالقرب من القصر حيث رائحة الأزهار، خرجت ومعي هدى ومنى وخالد ومشينا حتى بعد الغروب ورجعنا وكانت الساعة قبل الثامنة.
قال لي شقيقه: إن أخي حضر من وقت قصير وسأل عنك وعن الأولاد وأخبرناه بأنك تتمشين عند قصر القبة، وبعد قليل حضر جمال وكان يلبس القميص والبنطلون، وأخذ يتكلم مع أولاده ويلاطفهم ويقبلهم بحرارة ويقول لهم أسماء الدلع التي اعتاد أن يقولها لهم، ويقبل هدى ومنى وخالد وعبد الحميد وكنت أحمله على كتفي، وخرج بمفرده بنفس الملابس، القميص والبنطلون .
تناول الأولاد العشاء وناموا مبكرين كعادتهم، وظل طفلي الصغير حتى تناول وجبة الساعة التاسعة ونام، وجلست مع الليثي وشوقي، وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم، رجع جمال ودخل الحجرة، فقلت في نفسي: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا، وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البذلة العسكرية ووجدته يرتديها.
فقمت وجلست وقلت له بالحرف: أنت رايح فين بالبذلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله أنت رايح فين منذ زواجنا، فرد علىّ بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهي من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذي يجلس معي ونشتغل سويّا قال لي نسهر الليلة في بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظريني غدا وقت الغداء، وحياني وقبل خروجه من الحجرة قال لي: لا تخرجي
وفي مذكراتها، وصلت زوجة الزعيم حديثها، قائلة: «وفي الساعة الثانية عشرة، سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة شعرت بأنها صادرة من ناحية قصر القبة، فقمت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت أخويه فقلت: هذا الضرب.. الطلقات في قصر الملك ولا بد أن يكون “جمال” من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر وبكيت .
استمرت الطلقات الكثيرة حوالي عشر دقائق ثم سكتت دقائق وعادت مرة أخرى لدقائق، واستمررت في البكاء فقال لي أخوه: إن صوت الطلقات كما هو معروف يصدر من الناحية المقابلة لها وليس من المكان الذي أطلقت منه، إنها ليست في القصر ولا تنشغلي، ونظر إلى المصحف وهمَّ بأخذه في يده فقلت له: لا تلمس المصحف، سوف لا أصدقك وأنت تحلف يمينا دون أن تعلم شيئا، فرجع ولم يلمس المصحف».
ثم في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل رأيت شابا يقف في ناصية الشارع، وهو ميدان المستشفى العسكري في ذلك الوقت، يزعق بصوت عال ويقول: عندك.. ثم يتحرك ويمشى بخطوات ثابتة أسمع صوتها ويروح ويجىء، ويرجع العربات ويقفل الشارع، وتبينت أنه البكباشي جمال عبد الناصر.. زوجي الحبيب.
وقبل الساعة الثانية صباحا رأيت العربات المصفحة والدبابات والجيش، وكان قد زود بأسلحة بعد حرب فلسطين، فرأيت وسمعت صوت الدبابات وهى تكركر وتمر في الشارع وتمشى في ميدان المستشفى العسكري، وكنت أعرف شوارع ثكنات الجيش وأمر عليها في خروجي، إذ كانت كلها قريبة من بيتنا.
رأيت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا: افرحي افرحي.. فقلت: وأين جمال؟.. والطلقات التي سمعناها؟ وأخذت أبكى وقلت: الآن أنا فهمت.. إنه انقلاب عسكري .
وأخذ أخواه يهنئاني فكنت أسكت عن البكاء ثم أعود أبكى وأقول بالحرف: بس لو كنت أعرف فين جمال، وطلقات الرصاص اللي سمعناها؟ قال شقيقاه: لقد أخبرنا قبل خروجه أنه ذاهب في مهمة خطيرة: فإذا رأيتم الجيش نازلا والدبابات والعربات اعرفوا أنى نجحت .
ثم فتحنا الراديو وسمعنا البيان الذي قرأه أنور السادات